تحية عزة وشموخ لكل من يكدح ويعمل من أجل كسب حلال يعيل به عياله ويستره قل أو كثر، ويناجد ربه أن يديم عليه نعمة الصحة والعافية ،ليقدر على أن يصحو من جديد ليبدأ يوما أخر بالجد والإجتهاد ليضيف لمحصلته ولو بالوزر اليسير مايسد به رمق من يعيل.
ولعل في مقدمة هذه الفئية عمال النظافة المتميزون ،وليكن على رأس قائيمتهم الشيخ الذي أحدودب ظهره ولم يعد يقدر على الكثير من العمل الذي يتطلب الجهد الكبير ،ومع ذلك لايزال يكافح من أجل تأدية مهمته على أحسن وجه.
نعم هو ذلك الشيخ الهرم والضارب في العمر الذي إحدودب ظهره وملأت التجاعيد وجهه ويخطو بالهوينا، ويدفع سيارته ذات العجلتين ببطئ شديد ولكن ومع ذلك تراه يشطب كل ما يمر عليه.
دأبت منذو أن فرضت الظروف التي صاحبت وفاة والدتي رحمة الله عليها والتي جعلت والدي يلازم المدينة ،بأن أمر كل صباح على محلبة لتسويق حليب الإبل لجلب الحليب للوالد أطال الله في عمره و الذي يعتبر غذاء أساسي له،وبينما أنا في إنتظار وصول السيارة التي تحمل الحليب من المراعي التابعة للجهة ،أنتهز الفرصة لأتمشى على جنبات وادي الذهب (الكورنيش)،ويوميا أثناء هذه اللفة التي تأخذ من وقتي ذهابا وأيابا نصف الساعة أو تزيد بقليل ،أجوب خلالها ثلث طول الكورنيش الشمالي،وبينما أنا كذلك أثار إنتباهي أحد عمال النظافة الذي أصبحت أصادفه بشكل يومي، وكثيرا ما أراه من بعيد ،وهو يتكئ على أحد الكراسي الرخامية المنتشرة على طول الكورنيش التي بدأت هي الأخرى بسبب كثرة أعطابها أيلة لنهاية الخدمة ،وإن كان الأمر مختلف معها لحداثة عهدها، وإن كان من سبب فهو النقص في الإتقان، ويبدأ المسكين يلوح بيديه تارة ويحرك رجليه تارة أخرى بحركات يحاكي بها الرياضيين ،وتبين لي في ما بعد أنها ليست إلا إستراحة محارب كما يقال،فبعد أن نظف الجزء الأول من المساحة التي على مايبدو خصصت له قصد نظافتها يوميا يأخذ قسطا من الراحة ،على أن يعاود الكرة من جديد لينهي الرقعة الجغرافية التي تقع نظافتها تحت مسؤوليته، وهكذا وأنا عائد من رياضة المشي يبدأ الشيخ بدفع عربته من جديد ليكمل مشواره الذي بدأه على مايبدو مبكرا ،وقد دفعني الفضول لمحاولة سؤاله أكثر من مرة عن طبيعة عمله، وعن ظروفه وعن حياته بشكل عام ،وترددت في ذلك أكثر من مرة، و صممت على أن أقتحم دائرته الشخصية الضيقة على غير عادتي ،بعد أن قررت أن أكتب عنه لأعرف عنه ،بعدما أعجبني إصراره وهو الطاعن في السن لماذا بقى شامخا ومصرا على أن لايترك عربته لغيره؟أهو العوز وقلة اليد وقلة الحيلة ؟أم أنها علاقة وولفة بينه والعربة ؟ أم أن طبيعة عمله لاتعترف بالتقاعد، الذي يمنح للعامل بموجبه شهرية يستظل بها من حر تكاليف الحياة، بعد أن لم يعد قادر على العطاء كمكافأة على ماقدمه في صحته فما السر إذن؟ لازال يأخذني الفضول والرغبة الجامحة في تقديم المساعدة أيا كانت قيمتها ،وأقلها التشجيع والتكريم ولو إقتصر في كلمة طيبة، علها تخفف عن الشيخ من وطأة العمل والظروف التي دفعته أن يظل كذلك بالرغم من أنه كان من المفروض أن يحال على التقاعد كما تقاعد من هم في سنه منذو سنين.
ولكن كما يقال الطبع أملك فقد غلب علي طبعي ولم أستطع أن أفاتحه في الموضوع، على أن تظل الأسئلة التي كان بودنا طرحها عالقة ،وسيظل معها بالنا عالق عليه وعلى كل من يبذل جهدا مضاعفا عله يلبي بعض متطلبات من يعيل،وستظل وراء كل إنسان حكايته الخاصة التي فرضتها ظروفه الخاصة كذلك.
وفي إنتظار حل كل تلك الألغاز أود أن نطلب من مسؤوليه أن يرحمو جسده المتعب،ومن الحكومة التعجيل بتنزيل البرامج الإجتماعية التي من شأنها أن تضمن له ولمن مثله حياة كريمة تتماشى وجهده البدني والفكري.
(الراحمون يرحمهم الرحمن إرحمو من في الأرض يرحمكم من في السماء ).