الساحة 24 SAHA
في السنوات الأخيرة، بدأت مشاهد الأعراس في مناطق الصحراء وموريتانيا تشهد تحولات لافتة، لم تعد تقتصر على الطقوس التقليدية والفرح الجماعي، بل تحوّلت في كثير من الأحيان إلى ساحات استعراض وتفاخر، خاصة من خلال ظاهرة “رمي الأموال” التي أصبحت علامة “رقي اجتماعي” زائف لدى البعض.
رمي الأموال: من الكرم إلى التبذير
تُعرف مجتمعات الصحراء بكرمها المتجذر، لكن ما يحصل اليوم في كثير من الأعراس تجاوز مفهوم الكرم، ليتحوّل إلى سلوك استعراضي يقوم فيه الحضور، لا سيما الأقرباء أو أصدقاء العريس، برمي مبالغ مالية كبيرة في الهواء، أو على فرق الرقص والمغنين. وتُوثّق هذه المشاهد بكاميرات الهاتف، لتُتداول لاحقًا على مواقع التواصل الاجتماعي كأدلة على “الوجاهة” أو “السخاء”.
لكن خلف هذا المظهر الاحتفالي الباذخ، تتوارى حقيقة اجتماعية مزعجة: الضغط المالي الشديد الذي يُفرض على أهل العريس، والقلق الذي يعيشه الشباب الراغبون في الزواج، في ظل التكاليف الباهظة التي صارت مرتبطة بهذه المناسبات.
غلاء المهور وطلبات التفاخر: الزواج حلم مُؤجل
لا تقتصر الأزمة على رمي الأموال فحسب، بل تتعداها إلى غلاء المهور وطلبات التفاخر المرتبطة بالأعراس. ففي كثير من المجتمعات الصحراوية والموريتانية، أصبحت حفلات الزفاف تقاس بمستوى المبالغة فيها، من حيث عدد الفرق الموسيقية، والضيافة، والزينة، وحتى الهدايا.
تقول فاطمة، وهي ناشطة اجتماعية من نواكشوط:
“العديد من الأسر لم تعد ترى الزواج كتقليد ديني واجتماعي، بل كمناسبة للتفاخر أمام الجيران والأقارب، وهذا يتسبب في نفور عدد كبير من الشباب الذين لا يملكون القدرة المادية على تحمل هذه التكاليف.”
وتؤكد الإحصائيات غير الرسمية أن متوسط المهور في بعض المناطق ارتفع بنسبة تفوق 60٪ خلال العقد الأخير، مع تسجيل حالات تجاوزت فيها تكاليف الزواج 10 ملايين أوقية (قديمة)، ما يجعل الزواج بالنسبة لكثيرين “مشروعًا مستحيلاً”.
النتائج الاجتماعية: عزوف عن الزواج وتفكك قيمي
هذا التوجه المبالغ فيه نحو التظاهر بالثراء، أفرز نتائج مقلقة، أهمها:
ارتفاع معدل العزوبة في صفوف الشباب، خاصة الذكور.
تأجيل الزواج لسنوات طويلة، ما قد يُسهم في انحرافات اجتماعية وسلوكيات غير صحية.
تحوّل الزواج من رابط روحي واجتماعي إلى صفقة مالية.
تزايد القروض والديون التي يلجأ إليها البعض فقط لإقامة عرس “لا يُعيبهم” اجتماعياً.
دور الشيوخ والوجهاء: أمل في التغيير
في ظل هذه الظواهر، يبرز دور الشيوخ والوجهاء والقيادات الدينية والاجتماعية كعنصر أساسي للحد من هذا الانفلات الاجتماعي. فهم، بحكم مكانتهم وتأثيرهم، قادرون على:
إعادة تعريف مفهوم الكرامة والوجاهة بما يتماشى مع القيم الدينية.
الدعوة إلى تبسيط الزواج وتشجيع المهر الرمزي.
تنظيم حملات توعية حول مخاطر التفاخر والبذخ.
وضع ميثاق شرف اجتماعي داخل القبائل أو المدن يُلزم العائلات بعدم تجاوز سقف معين في المهور أو تكاليف الأعراس.
وقد بدأت بالفعل بعض المبادرات المجتمعية في ولايات مثل الحوض الشرقي وآدرار، حيث اتفقت العشائر على تحديد مهور موحدة، وإقامة الأعراس بشكل جماعي لتقليل التكلفة.
ختامًا: نحو مجتمع متوازن
ظاهرة رمي الأموال في الأعراس، وإن بدت “احتفالية” من الخارج، فهي في عمقها مؤشر على أزمة اجتماعية تحتاج إلى مواجهة جادة. المطلوب اليوم هو وعي جماعي يُعيد للزواج طابعه الإنساني والديني، ويُحرّر الشباب من قيود التفاخر الاجتماعي.
وذلك لن يتحقق إلا بتكاتف جهود الأسر، والشيوخ، والدولة، والإعلام، نحو ثقافة جديدة عنوانها:
“البساطة لا تُنقص من الفرح، والكرامة ليست في التبذير.”

