الرباط التي عرفتها ونهلت من علمها وتعلمت من حضارتها وتمدنها، وسكنتها للدراسة في تسعينيات القرن الماضي ،وزرتها في إجتماعات عمل واجتماعات سياسةبعد ذلك مرات ومرات ، لازالت تسكنني رغم الفراق ولازلت أعاود زيارتها وفي كل مرة أجدها تكبر معي وتتقدم في السن ولكنها لاتشيخ ،ومايزيدها تقدمها في العمر إلا جمالية ونظافة لشوارعها وأزقتها وأحيائيها التي ظلت محافظة على معالمها الكبرى مع لمسات حداثية تزينها ،وقد تكون هي سر عدم ظهور تجاعيدها.
فهي من مدن العمر إن صح القول لكونها تتربع في أحسن فتراته وهي المرحلة الجامعية في سلكها الأول والثاني ،ولكونها كاتمة بعض أسراري الشبابية كذلك، فلهذا أحبها ولها في القلب حنين ،ولأنني كذلك لها مدين كان لابد وأنا فيها من جديد أن أتذكرها ولو ببعض السطور علني أقضي من كل ذلك الدين القليل،ومع ذلك فالوفاء يبقى لموطن الأباء والأجداد أكثر وهذه سنة الحياة التي تقتضي ذلك وهي فطرة فطر الإنسان عليها ،فكلنا جبلنا على حب مدننا الأصلية،وعليه فأنا أغار منها ومن التغييرات الجذرية المتسارعة التي ألاحظها كل ماسنحت لي الفرصة لزيارتها ،ومدينتي بالمقابل لازالت حبيسة مكانها ،وكأن عقارب ساعتها معطلة وأن فترة نموها متوقفة بإستمرار.
هنئيا لأبناء المدينة الهادئية الجميلة ،وهنئيا لنا نحن أبناءها بالرضاعة ،على هذا التقدم الحاصل في كل أركانها ومناحي حياتها،هذا التغيير الإجابي في جله ،والذي شمل جل معالم المدينة وأشهر أماكنها ،وإن كان بعضها قد زال نهائيا من قبيل مقهى الفن السابع الذي صارت أثر بعد عين ،ومقهى باليما المعطل حاليا نتيجة بعض الأشغال في فندقه ،وأنا أطل من شرفة البيت في الفندق غير بعيد على ساحة الورود فأتذكر زمنها حين كان الباعة يستغلون كل تلك الساحةو كانت تعج بالناس للطلب عليها وتطبعها البساطة، بعد أن جرفت معالم التغيير وجهها و أنزوى الباعة في ركن صغير لتحل محلها فضاءات للمقاهي يلزم روادها بتسلق الدرج ،وأتمنى صادقا أن تتحرك مدينتي هي الأخرى وترتب أوراقها وتنفض عنها الغبار وتنهض من جديد حتى لاتسكننا الغيرة كما تسكننا الرباط ،مع أن الإكراهات كبيرة تتطلب تغييرا جذريا يشمل ترميم خدوشها من رأسها إلى أخمص قدميها،حتى نقتفي أثر مدينة الرباط ونفتخر بحداثة مدينتنا وجهتنا ونكون لغيرنا قدوة ولما لا نصل حد زرع الغيرة فيه من مدينتنا تماما كما نغار نحن من مدينةالرباط المتميزة بأسوارها المتلونة بألوان الطين والشاهدة والشامخة من أيام رباط الفتح.
وها أنذا أودعها وأغادرها ولكنها مع ذلك لاتغادرني بعد هذه الزيارة الخاطفة، وفي القلب شوق لهدوئها وسرعة ظلام ليلها ،وملائمة جوها وحسن مناظرها،لأضرب معها موعد من جديد إن بقي في العمر بقية على أن تكون حينها مدينتنا الشاطيئة الداخلة مدينة الوادي والمحيط ،ومدينة الصحراء والبحر قد لبست حلتها الجديدة ،وتجاوزت معضلتها فلها هي الأخرى جمالها ومعالمها ،و حضارتها وتاريخها الضارب في القدم ، وبريقها الذي ينافس ويضاهي كل مدن العالم.